الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
قد كان تقدم لنا أن عنان بن مقابس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها. وساء أثر عنان وعجز من مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم. وامتدت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدة للسلطان والأمراء والتجار ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة. ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبي من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالإصلاح بين الشرفاء. ولما وصل الأمير إلى مكة وكان بها يومئذ قرقماش خشي الأشراف منه واضطرب عنان وركب للقائه. ثم توجس الخيفة وكر راجعاً واتبع الأشراف واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد. ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه ولم يزل محبوساً إلى أن خرج مع بكا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة اثنتين وتسعين. وبعثه مع أخيه أيبقا يستكشف خبر السلطان كما مر. وانتظم أمر السلطان بسعاية بكا في العود إلى إمارته رعياً لما كان بينهما من العشرة في البحر وأسعفه السلطان بذلك وولاه شركاً لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين وأمرهما مضطرب والأشراف معصوصبون على عنان وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد كذلك وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم. ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أول شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما ورفع مجلس علي على سائرهم. ولما انقضى الفطر ولى علي بن عجلان مستقلاً واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة والخيول والممالك والحبوب وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية. ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعد الرواحل ليلحق بمكة هارباً فقبض عليه وحبسه بالقلعة وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته. ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه وهو مقيم على ذلك لهذا العهد. والله غالب على أمره إنه على كل شيء قدير.
ومسير السلطان بالعساكر إليه كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوباً وبلاد القفجاق وبلغار شمالاً ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدم في أخبارهم ويأتي إن شاء الله تعالى. وكان أول من خرج منهم ملكهم جنكز خان أعوام عشر وستمائة واستقلوا بهذه الممالك كلها. ثم انقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة والروم ولبني جفطاي خوارزم وما إليها. واستمرت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة اننقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد آخرهم ولم يعقب وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصفهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي وأصفهان وفارس وسجستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي مرداش بن جوبان وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن إيبغا بن ايكان - وايكان سبط أرغو بن أبغا بن هلاكو - ولبنيه وهو من كبار المغل في نسبه. ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلاً بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل. واستقر ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغو كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد. ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل والتتر ينسب هو وقومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي ابن جنكز خان أو جفطاي آخر شعوب المغل والأول أقرب لما قدمته من ولاية جفطاي بن جنكز خان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه. وإن اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الذي مع تمر وقصر المدة. إلى هذه المدة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأن جفطاي كان لعهد أبيه جنكز خان يقارب الأربعين فهذه المدة أزيد من خمسة من العصور لأن العصر أربعون سنة. وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف. وإن فرضنا أن المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفاً وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين وثلاثين وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفاً. والسبعة أقل ما يمكن عن الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل. والستة عشر ألفاً عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر. ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها مرت يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب. وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها وقتل الشيخ ولي في حروبه ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة. وأطل بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل. وكانت الحروب بينهم سجالاً. ثم تأخر إلى ناحية أصفهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكز خان وهو صاحب كرسي صراي أمده بأمواله وعساكره فكر راجعاً إلى بلده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين. ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعاً وملكها. ثم خطا إلى أصفهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبددت جموعهم. وراسله صاحب بغداد أحمد بن أويس وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليله ومر بجسر الحلة فقطعه. وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوال سنة خمس وتسعين وأجازوا دجلة سبحاً ودخلوا واستولوا عليها. وبعث العساكر في أتباع أحمد فلحقوا بأعقابه وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكر عليهم في جموعه وقتل الأمير الذي كان في اتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها. وطرقه مرض أبطأ به عن مصر. وجاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة. وأقفرت جوانب بغداد من العيث. ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخاً به على طلب ملكه والانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوماً فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأسرها. ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وأشفوا نعمتها وافترق أهلها. وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياماً أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه. واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند. واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمة وسرب النفقات في تابعه وجنده. ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى حلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصداً للعدو. فلما وصل إلى دمشق وفد عليه حلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه. وبعث السلطان على أثره العساكر مدداً له مع كمشيقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهراً ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها. والسلطان لهذا العهد - وهو شعبان سنة ست وتسعين - مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته والله ولي الأمور. وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد والله مقدر الأمور وخالقها.
الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد كان تقدم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن ابن المظفر وانتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس وقد تقدم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلاً إلى مصر. وهلك في جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين. وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة وولى بعده ابنه الكامل وجدد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن. وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره تأخير أعلام الخليفة عن إعلامه ما مر في أخبار دولتهم. ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرهم حسن بن قتادة من بني مطاعن إحدى بطون حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود وملك مكة وولى عليها. ورجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره. ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق. ورجع ابن قتادة إلى مكة. ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف وأقام مملكاً على اليمن إلى أن خلع. وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه. ثم خلع ابن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبد بملك اليمن وأخذ بدعوة الكامل بمصر وبعث أخويه رهناً على الطاعة. ثم هلك سنة تسع وعشرين وولى ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول. ولما هلك علي بن منصور ولى بعدمه الكامل ابنه عمر. ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور ومنع الأتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم وحبسهم. وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مر في أخبارهم. ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه. فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطئ وكان بحصن بملا وكان الحديث شائعاً بين الزيدية بأن الأمر يرجع إلى بني الرسي. وكان أحمد فقيهاً أديباً عالماً بمذهب الزيدية مجتهداً في العبادة. وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة. وأهم عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملا مدة ثم أفرج عنه وجهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له. ولم يزل قائماً بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر. ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف وكان عادلاً محسناً وفرض الأتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها. وكان لأول ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره وتمكن أحمد الموطئ الثائر بحصن ملا من الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصناً من حصون الزيدية. وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه. ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل. ولم يزل المظفر والياً على اليمن إلى أن هلك بغتة سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف. ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر وكان أخوه داود والياً على الشحر فدعاه لنفسه ونازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه. واستمر الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهراً من ولايته أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف. ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرجوا أخاه مؤيد الدين داود من معتقله وولوه عليهم وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل. ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر. وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردوها عليه ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه. وكان فاضلاً شافعي المذهب وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه. ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة والله وارث الأرض ومن عليها. ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف وحبسه ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية العزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد وغلب على جلال الدين وحبسه والله تعالى أعلم.
وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلاً بلهوه عاكفاً على لذاته وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى سنة اثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين وفتك بحرمه وقبض عليه وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر وأطلق جلال الدين ابن عمه. والله تعالى أعلم بغيبه.
ومقتل ه وعود المجاهد إلى ملكه ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له ولما حبس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه ورجع أهل اليمن لطاعته. وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه وامتنع بها. وكتب إليه المجاهد يهدده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما وعظمت الفتنة وافترق عليهما العرب وكثر عيثهم وكثر الفساد. وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفاً على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الرد على أبيه. ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه واجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب وبعث عسكراً مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها. وجهز المجاهد عسكره إليها مع قائده علي بن الدوادار ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم. واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها. وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها. ثم استمال صاحب صنعاء وخوص فقاموا بدعوة الظاهر وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه وهو بحصن المعدية وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقر له باليمن والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه.
على أمره وصلحه مع الظاهر ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاوون سنة خمس وعشرين فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وأنيال من أمراء دولته ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة وتحالفوا على ذلك. وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع من إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز وأثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حق أطاعوا وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومقتله ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه وإحكام الوصلة به حتى اطمأن وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة وولى عليها من قبله وصار الظاهر في جملته. ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز. ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين والله تعالى أعلم.
واعتقاله بالكرك ثم اطلاقه ورجوعه إلى ملكه ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وير السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميراً وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيداً لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيداً. وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن. ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة وأطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله. وحمل المجاهد إلى مصر معتقلاً فحبس ثم أطلق سنة اثنتين وخمسين في دولة الصالح. وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده. فلما انتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه وأقام على مهاداة صاحب مصر ومصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه.
ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابنه عباس واستقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه والله تعالى أعلم.
ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره واجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين وثمانين للثورة به وقتله واطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة وأخذهم العرب في طريقهم وجاؤوا بهم وعفا عنهم واستمر في ملكه إلى أن هلك ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وكيف تغلبوا علن الممالك الإسلامية وانتزوا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول المفترقة وكيف أسلموا بعد ذلك ومبدأ أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك وأن الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح وهو الذي وقع في التوراة. وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغز الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج وبلاد الصغد قريباً من سمرقند ويسمون بها أيضاً. وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر وكانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج ويقال إنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان. ويقال الآن وجركس وأركش. وعد صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسة والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلخ وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقه من أرض الروم. وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء النهر شرقاً إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم إلى السابع والصين في وسط بلادهم. وكان الصين أولاً لبني صيني إخوانهم من بني يافث. ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلاً من أطرافه على ساحل البحر وهم رحالة كما مر في ذكرهم أول الكتاب وفي دولة السلجوقية وأكثرهم في المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان. وكان لهم قبل الإسلام دولة ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان. وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم وغليوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم وذلك من بعد القرن الأول. وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر ولا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك. وقد قيل فيهم أنهم من ولد فراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم مثل كسرى للفرس وقيصر للروم. وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العباس حرب وسلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعاً. وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان. وقد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب وعلى اليمن والحجاز والشام وفتحوا كثيراً من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة. ثم تلاشت دولتهم وأنقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول وسنة الله في العباد. وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وكاشغر من أمم الترك أمة الخطا ومن ورائهم أمة التتر ما إلى تركستان وحدود الصين. ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان بن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث. ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه. وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم. وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك واستولى على ما وراء النهر. ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد. ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر. ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه. وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم وملك سائر بلاد الخطا إلى أوركندا وأنزل بها نوابه وزوج أخته من الخان صاحب سمرقند وأنزل معه شحنة كما كانت للخطا وعاد إلى بلاده. وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم وهم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند واقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر وأنزل في سائر البلد نوابه. وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان وكان ملكهم كشلي خان ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته. وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذاً عنهما وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه. ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه. وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره. ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وبعث خوارزم شاه بحربهم. ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء وكشلي خان بعذله في ذلك وهو يغالطه واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وساغون. ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاس وفرغانة واسبيجاب وقاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين وخرب جميعها خوفاً أن يملكها التتر بعد ذلك. وخرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل وملكهم جنكز خان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه وعبر النهر إلى خراسان ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره والله سبحانه وتعالى أعلم.
|